عامر علي
الإثنين 18 آب 2025
الموفد الأميركي إلى سوريا، توماس براك، خلال اجتماع في عمّان مع وزيري خارجية سوريا، أسعد الشيباني، والأردن، أيمن الصفدي (أ ف ب)
بينما أثار رفع علم كيان الاحتلال الإسرائيلي في تظاهرات السويداء، يوم الجمعة الماضي، ردود فعل متباينة، لا يمكن فصل هذا التطور عن سياق ما يعيشه الجنوب السوري عموماً، والسويداء على وجه الخصوص، في ظل الحصار المُطبق الذي تفرضه السلطات الانتقالية السورية على المحافظة من جهة، والتمدّد الإسرائيلي غير المسبوق نحوها، من جهة أخرى.
وعلى مدار الأعوام الخمسة الماضية، كثّف الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في فلسطين المحتلة، موفّق طريف، والمقرّب جداً من سلطات الاحتلال، نشاطه السياسي بحثاً عن طريقة لفتح الباب أمام العدو لتوسيع حضوره في المناطق الدرزية، جنوبي سوريا، بذريعة «حماية الدروز». غير أن مساعي طريف لم تلقَ أي آذان صاغية قبل انهيار النظام السابق نهاية العام المنصرم؛ إذ حافظ الأخير على «مسافة أمان» في تعامله مع هذا الملف الحساس، على الرغم من ارتفاع الأصوات واشتداد التحركات المناوئة له، والتي وصلت إلى حدّ منح المحافظة ما يشبه حالة «الحكم الذاتي»، المضبوط بحضور روسي، حينها.
وظلّ المشهد السياسي في المحافظة منقسماً، وقتذاك، بين أغلبية يقودها الشيخان يوسف جربوع وحمود حناوي متمسّكة بالانفتاح على الحكومة، ورافضة لحالة الانعزال الذي يهدف إلى الانفصال أو الانجرار وراء المشروع الإسرائيلي، وتيار صاعد قاده الزعيم الروحي للطائفة حكمت الهجري، الذي وسّع قنوات تواصله مع الولايات المتحدة وأوروبا، وحظي بدعم وازن من قوى المعارضة السورية، وقتذاك، باعتباره «أحد وجوه الثورة».
ومع سقوط النظام السابق، وصعود «هيئة تحرير الشام» إلى سدّة الحكم، حافظ شيوخ عقل الطائفة في السويداء على مواقفهم؛ إذ تمسّك كل من الحناوي وجربوع بوحدة الأراضي السورية والانفتاح المشروط على الحكومة الناشئة، في حين أبدى الهجري رفضاً قاطعاً لأي انفتاح، في ظل الخلفية المتشدّدة للسلطات الجديدة. وقوبل هذا الأمر بحملة مضادّة تعرّض لها الهجري من قبل وسائل إعلام موالية أو تابعة للسلطات الانتقالية، حاولت اللعب على التناقضات في السويداء، بهدف تمهيد الأرضية للسيطرة عليها.
وفي غضون ذلك، عرضت الإدارة الجديدة مشاريع عديدة لإنهاء أزمة السويداء، بينها قبول شروط أبناء المحافظة بتشكيل ضابطة عدلية محلية، بقيادة من السلطات الانتقالية، لضبط الأمن، وهو ما تمّ البدء بتطبيقه فعلاً. كذلك، تعهّدت السلطات، على وقع ارتفاع خطاب الكراهية ضد الدروز وتعرّضهم لحملات ممنهجة في دمشق والساحل، بحماية هؤلاء، وتأمين طريق دمشق - السويداء، وهو ما لم يتم تنفيذه على أرض الواقع.
منح سلوك السلطة الانتقالية تل أبيب فرصة لا تُعوّض لاستثمار الظروف
وفتح ما تقدّم الباب أمام موجة عنف كبيرة تعرّضت لها السويداء، ذهب ضحيتها مئات الأشخاص، بينهم نساء وأطفال، تمّ قتلهم بدم بارد على يد فصائل تابعة أو مرتبطة بالإدارة الجديدة. وسرعان ما وجدت إسرائيل في ذلك فرصة لتوسيع حضورها في المحافظة، بعد أن أجبرت الفصائل المهاجمة على الخروج منها، ومهّدت الأرض لإقامة حكم ذاتي حقيقي فيها، تمّ الإعلان عن أسسه قبل نحو أسبوعين.
وهكذا، وضعت المجازر التي تعرّض لها أبناء السويداء من الدروز بحجة «بسط سيطرة الدولة»، وما تبعها من حصار مُطبق، المحافظة على شفا أزمة إنسانية، وحّدت الموقف الدرزي، وكلمة شيوخ عقل الطائفة الثلاثة، إذ عبّر هؤلاء عن رفضهم التعامل مع السلطات الانتقالية التي وصفوها بأنها «إرهابية»، في وقت سلّطت فيه الإدارة ووسائل الإعلام التابعة لها أو المرتبطة بها، الضوء على التدخل الإسرائيلي، لتبدأ حملة جديدة ضد الدروز باعتبارهم عملاء انفصاليين، الأمر الذي خلق ردّة فعل عنيفة في الشارع الدرزي ضد تلك السلطات.
وزادت التسجيلات المصوّرة للجرائم التي ارتكبها مسلحو السلطات الانتقالية، بدورها، من حدة الاحتقان، خصوصاً أن الانتهاكات ارتُكبت على خلفية طائفية معلنة. ولخّص التسجيل المصوّر الذي ظهر خلاله مسلحون يسألون مواطناً عن طائفته فيجيب «أنا سوري»، قبل أن يتم قتله «لأنه درزي»، بالنسبة إلى كثير من أبناء السويداء، الموقف، ودفعهم بشكل تلقائي إلى الالتفاف حول طائفتهم باعتبارهم مُستهدَفين، وبوصف السلطات غير مهتمة بالانتماء الوطني، وإنما ساعية إلى عملية اجتثاث طائفي واضحة.
وسط هذه الأوضاع، ومع توسّع الدور الإسرائيلي المربك في الجنوب، تجاهلت السلطات الانتقالية حقيقة الأزمة، وتوجّهت إلى حلّها عبر المسارات السياسية المتصلة بشكل مباشر بتل أبيب. ووضع هذا الأمر أبناء السويداء المحاصرين من جميع الاتجاهات، والذين يتعرّضون بشكل يومي لعمليات قتل وخطف، ويعيشون في ظل أوضاع إنسانية سيئة للغاية، في السلة الإسرائيلية بسهولة.
كذلك، منح هذا السلوك تل أبيب فرصة لا تعوّض لاستثمار الظروف، عبر ترسيخ نفسها «حامية للدروز»، ما أدّى بمجمله إلى الوصول إلى الأوضاع الحالية، التي بات فيها رفع علم الكيان «مقبولاً»، وأضحى طلب «حق تقرير المصير» «عادياً»، في ظل الصعود المستمر للتيار الموالي لإسرائيل. وهو صعود لا يبدو منفصلاً عن سياسة السلطات الانتقالية في دفع الجنوب - الذي قاد الثورة ضد الاحتلال الفرنسي وناضل لأجل استقلال سوريا (سوريا كلها وليس السويداء فقط)، ودفع طيلة العقود السبعة الماضية فاتورة باهظة لمواقفه المناوئة للاحتلال -، نحو أحضان إسرائيل.